النائب سالم لبيض لراشد الغنوشي"لقد بلغت من العمر عتيّا"

النائب سالم لبيض لراشد الغنوشي"لقد بلغت من العمر عتيّا"


تونس، حركة النهضه ، حركة الشعب، سالم الأبيض،  راشد الغنوشي ، قلب تونس،  نبيل القروي،  حربوشة نيوز


بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيّد الخلق محمد بن عبد الله الصادق الأمين


هذه رسالة من النائب سالم لبيض إلى السيد راشد خريجي الغنوشي

رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس حركة النهضة الإسلامية

 وزعيم تيار الإسلام السياسي التونسي

"لقد بلغت من العمر عتيّا"

ما كان لي أن أستنجد بقلمي، واستحضر ما أُتيح لي من كتب ومقالات وحُجج وبيانات، وأستجمع أفكاري لأحبّر البياض الناصع بما تيسّر من الكَلِمَ والمعنى، لو لا البيان الذي صدر عنك بوصفك رئيس مجلس نواب الشعب يوم 26 جانفي 2021 بعد منتصف الليل، الذي أدنت فيه العنف الصادر عن نائبين من الكتلة الديمقراطية تجاه عدد من نواب كتلة ائتلاف الكرامة، وأنت نفسك الذي أصدرت يوم 15 جانفي المنقضي بيانا سابقا أكدت فيه "إن رئيس مجلس نواب الشعب إثر اطلاعه على حيثيات حادثة العنف الذي تعرّض له يوم 7 ديسمبر 2020 السادة النواب أنور بالشاهد وسامية حمودة عبو وأمل السعيدي، يدين بشدّة العنف المادي الذي صدر عن بعض نواب كتلة ائتلاف الكرامة ويعتبر ما مارسوه سابقة خطيرة يجب أن لا تتكرر"، ثم بعد ذلك ارتكست عن موقفك تجاه رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي وصفته يوم 24 نوفمبر 2020 بأنه "رمز وحدة الدولة وقد انتخب بنسبة عالية ولا يزال يتمتع بثقة كبيرة" (تصريح لقناة الجزيرة)، ثمّ نقضته يوم 31 جانفي 2021 بقولك "إن دور الرئيس التونسي قيس سعيد في الدولة رمزي"(مداخلة باعتماد تقنية زوم)، فهل من المنطق السوي أن يكون رئيس الدولة رمز وحدتها وضامن استقلاليتها واستمراريتها والساهر على احترام دستورها والقائد الأعلى لقواتها المسلحة المختص بضبط سياساتها العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي (الفصلان 72 و77 من الدستور) صاحب دور رمزي محض؟

لا شك في أن هذا الارتكاس ينزع عنك مصداقيتك وأنت السياسي المحترف والزعيم الديني الذي يؤمّ أنصاره في صلواتهم التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتضع سلوكك في خانة الكبائر التي نهى عنها الإسلام الحنيف فجعلها من المدنّسات التي لا تمحوها التوبة النصوح، فقد شهدت شهادة زور لا يرتقي إليها الشك.

 وهي دنس سياسي ما كان ليصدر عن نائب أقسم بغليظ اليمين ويده على القرآن العظيم بأن يخدم الوطن بإخلاص وأن يلتزم أحكام الدستور كما جاء في الفصل 58. ناهيك أن يكون هذا النائب هو رئيس البرلمان نفسه، الذي جُبل على أن يعطي المثال في الصدق والإيثار والنزاهة والإخلاص وكبر النفس والبطرياركالية السياسية لرجل أنهى العقد الثامن من عمره، التي وجب أن تُترجم حيادا وعلوّا وارتفاعا عن صغائر النزاعات والمناكفات. فالبرلمانات هي مصانع القيم قبل أن تكون منابت التشريعات والقوانين. وهي محاريب يعلى فيها من شأن العدل والعدالة والمساواة، وترتقي فيها السياسة إلى المراتب العليا فتستحيل أفكارا خلّاقة تصنع مستقبل الأمم والشعوب وتعطيها القوة المادية والرمزية للنهوض والتقدم والانبعاث من رميم القهر والهيمنة والتبعية والجهل والفساد والتخلف، وإن هي حادت عن هذه القيم السامية كما هو حال برلماننا في زمن ولايتك هذه، وانتبذت لنفسها مواقع معادية لشعوبها فإن موتها يكون أصلح من حياتها.

وإن أركيولوجيا في ترجمتك الذاتية فيما هو محفوظ في الكتب والدراسات والمواقع والصحف والصفحات، تثبت أن صدور البيان والإتيان بنقيضه ليس بالأمر العابر والخطأ غير المقصود حتى من باب قاعدة الضرورات التي تبيح المحظورات التي يستند إليها بعض الفقهاء عند استعصاء الظواهر عن فهمهم وتفسيرهم. فهو يرتقي إلى مستوى الانفصام السياسي، الذي يبرره بعض أنصارك ومريدوك بالبرغماتية والدهاء والكيد والقدرة على المناورة، ولكنهم في الحقيقة يخدعونك بأقوالهم، ويخادعون أنفسهم، وأنت في حالة انتشاء بما يقولون، فما تأتيه في حقيقته هو تدنيس للسياسة التي هي في الأصل تدبير الجماعة وخدمة نبيلة والتزام بقضايا الناس ومعاناتهم، أما الانفصام فهو في كل الأحوال مرض وجب معالجته حتى وإن كان في مجال السياسة .

ولقد أتيت هذا الأمر من قبل عندما وصفت سنة 2012 المرحوم الباجي قائد السبسي بأنه وحزبه نداء تونس أكثر خطورة من السلفيين (تصريح الغنوشي بإذاعة شمس أفم 4 أكتوبر 2012)، ثم هرولت إلى العاصمة الفرنسية باريس سنة 2013 من أجل لقائه، حيث تقاسمت السلطة معه لخمس سنوات قادمة 2014-2019، شرط قبولك بإسقاط قانون تحصين الثورة (انظر مقال بعنوان الغنوشي : فخور لأنني ساهمت في إسقاط قانون تحصين الثورة، في الرأي الجديد يوم 8/11/2020)، الذي مكّن رجال النظام القديم من العودة إلى عالم السياسة والحكم، والذي تُرجم في أحد مظاهره قانونا للمصالحة الإدارية، وعدم تحديد سن الرئيس في الدستور بما مكنّ السبسي من الترشح للرئاسة، وبما قد يمكنك أنت أيضا من نزعة كامنة في أعماقك تأبى المغادرة والنسيان.

وتكرر السلوك ذاته مع نبيل القروي الذي كنت تصفه بالفساد وعدم إمكانية التحالف معه (تصريح الغنوشي لصحيفة العربي الجديد بتاريخ 27/11/2019)، إلى درجة تنقيح قانون الانتخابات يوم 11/6/2019 لأجل إقصائه من المشاركة في انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، فإذا بك تجعل منه ومن حزبه حليفا رئيسيا لك ولكتلتك البرلمانية من أجل الفوز برئاسة البرلمان وتشكيل الحكومة.

هذا دون وعودك الانتخابية التي كنت تطلق لها العنان بلا أدنى التزام بتحقيقها أو الخشية من زيفها وعدم واقعيتها مثل وعدك للتونسيات والتونسيين بتشغيل 450 ألف عاطل عن العمل دون أن تحقق شيئا من ذلك، واستمالتك أهل حاضرة تونس وأحيائها الشعبية بتحويل سبخة السيجومي إلى قطب سياحي (تصريح الغنوشي يوم 27/8/2017 أوردته جريدة الصباح)، ونشر شبكات الويفي المجاني في الأماكن العامة في البلديات التي تفوز فيها حركة النهضة لاستقطاب الشباب المغرم بالنشاط الافتراضي(تصريح الغنوشي في صفاقس إبان الحملة الانتخابية البلدية يوم 1/5/2018).

وإن اتخاذ الموقف ونقيضه والميل نحو الإرتكاس والتملص من أمانات السياسة وأقوالها ليس محدثا لديك، فقد دوّنت على الفضاء العام الافتراضي يوم 29 جانفي 2011، وأنت رئيس حركة النهضة الإسلامية وزعيم الإسلام السياسي التونسي لنصف قرن مضى، أي منذ أن عقدت الجماعة الإسلامية ما يعرف بلقاء الأربعين بمنطقة مرناق سنة 1972 ونصّبتك أميرا عليها (راجع عبد القادر الزغل وآمال موسى حركة النهضة بين الإخوان والتونسة 2014 ص 23)، دوّنت عشيّة عودتك من عاصمة الضباب لندن منفى الرفاهة الذي قضّيت فيه 20 سنة ، قائلا "أنا عائد إلى بلدي الحبيب غدا إن شاء الله وكما صرّحتُ في العديد من اللقاءات الصحفية والتلفزيونية فإني لا أنوي الترشح لأي انتخابات رئاسية أو برلمانية ولا أسعى لأي منصب..". وهذا نص التدوينة كاملة

وهو نص يشبه في انتحال صفة البراءة والعفوية ما كتبته عند عودتك إلى تونس قادما إليها من فرنسا نهاية الستينيات من القرن الماضي قائلا "عندما عدت إلى تونس (من فرنسا) عدت بفكر إسلامي سياسي إخواني مودودي وفلسفي لكن بتجربة عملية تبليغية ولم يكن معي من منهج عملي للتحرك بالإسلام بعد ما عدت إلى تونس غير منهج التبليغ.. إذ ظللنا ثلاث سنوات تقريبا على منهاج جماعة التبليغ نجتمع في المساجد"(لطفي العمدوني، الحركة الإسلامية في تونس ص 82).

ولكنك نكثت عهدك بتسللك ومن معك إلى حلقات جمعية المحافظة على القرآن الكريم، متخليا عن نزعتك التبليغية الوعظية، واستمالة أفئدة المؤمنين من التونسيين الذين كانوا يتحلّقون بكل تلقائية في حلقات حفظ القرآن العظيم، لتجعل منها الفضاء الأول لنشر الإسلام-السياسي الإخواني المودودي، غير المتعارف عليه في تونس قبل ذلك التاريخ، الذي انتشر في صفوف الشباب في المساجد "الذين أتيحت لهم الفرصة أن يستمعوا إلى (كلمة طيبة) نقلوها بدورهم إلى الجامعة..ولقد أخذ الشبان المتخرّجون من الجامعة على عاتقهم مسئولية نشر هذه الأفكار عبر كل معاهد البلاد" (عبد الباقي الهرماسي الإسلام الاحتجاجي في تونس ضمن الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي ص260).

ولو انك قرأت كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، الذي أشرت إليه إشارة يتيمة في مؤلفك الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص 90 منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، في سياق مناكف لغرماء الفكر والسياسة من التيارات الليبرالية واللائكية والماركسية والقومية، ودون ذكر ما يفيد الإطلاع على مضامينه، وأمعنت النظر في محتوياته، لما اختلط عليك أمر الرسالة المحمدية بالسلطة والحكم والملك والسياسة، ولكنت استفدت من محاجّة علي عبد الرازق أنصار بعث دولة الخلافة في مصر سنة 1924 بعد انهيار الخلافة العثمانية في الأستانة، قبل أربع سنوات من تأسيس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين. فقد خلُص عبد الرازق في ص 70 من كتابه إلى أنه "إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسس دولة سياسية أو شرع في تأسيسها فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم يعرف نظامه تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟". فالأصل في الإسلام حسب علي عبد الرازق هو الرسالة لا الحكم، فهو "دعوة طاهرة لهذا العالم أحمره وأسوده أن يعتصموا بحبل الله الواحد وأن يكونوا أمة واحدة يعبدون إلها واحدا ويكونون في عبادته إخوانا"، ويضيف عبد الرازق "معقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد وأن تنتظم البشرية كلها وحدة دينية، فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة فذلك يوشك أن يكون خارجا عن الطبيعة البشرية ولا تتعلق به إرادة الله" (ص90-91).  

وهذا الخلط للإسلام بالسياسة الذي أطلقت عليه تسمية الإسلام السياسي في حديثك عن عوامل نشأة الحركة الإسلامية في تونس (الحريات العامة ص 271)، أثبت عبد الرازق عقمه منذ قرن من الزمان ونزهّ الله جلّ جلاله والرسول صلىّ الله عليه وسلم عن الدعوة إليه بسبب نسبية السياسة ومحدوديتها ودنيويتها وانحسار أزمنتها مقابل طبيعة الإسلام الدين المطلق زمانا ومكانا. وهذا الخلط هو الذي حوّل السياسة إلى مفسدة كبرى بل إلى محرقة أوقعت فيها الكثير من "الشباب الإسلامي التونسي"، كانت قد وصفّتها التقارير الحقوقية الدولية وفصّل فيها القول التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة المنشور في شهر ديسمبر 2018 وأرّخ لها بدقة المرحوم الدكتور المنصف بن سالم في كتابه سنوات الجمر شهادات حية عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس مذكرات عالم جامعي وسجين سياسي"، وأسهب الهادي التيمومي في شرحها بالنسبة للشباب التونسي الذي زُج به في جبهات القتال في ليبيا وتسفيره إلى سوريا وغيرها من الجبهات ( الهادي التيمومي موسوعة الربيع العربي في تونس 2010-2020 ج3 ص 39-43)، هذا دون أن يلامس هذا الشباب عناصر المشروع ألإخواني- الإسلامي ويراها تتحقق حتى بعد عشر سنوات من حكم الإسلام السياسي تونس وغيرها من الدول العربية. فقد أثبتت السنوات العشر المنقضية أن الحركة الإسلامية التونسية لا تمتلك مشروعا مجتمعيا يمثل الوصول إلى السلطة أداة لتطبيق معالمه، وأن المشروع الإسلامي الإخواني الذي تبنته على مدى نصف قرن هو مجرّد يوتوبيا عاش أحلامها الوردية وأوهامها عشرات الآلاف من الرجال والنساء من مختلف الأعمار وهاهم يقفون على حقيقة مشروعهم الواهية وانهياره أمام أعينهم، فهذه السنوات كانت كافية لأفول هذا المشروع في أكثر من بلد، إلى درجة أن القيادي التاريخي في الإسلام السياسي التونسي لطفي زيتون قدم نقدا ذاتيا صارما بالقول " إن الحكم يمكن ويجب أن يكون من دون حركة النهضة"، وذلك بعد الإقرار بامتلاكها جهازا أو تنظيما سريا وارتكاب جرائم تجسدت في تنفيذ تفجيرات سوسة المنستير سنة 1987 وأحداث باب سويقة 1991(تصريح لإذاعة موزاييك في 31 جانفي 2021)، ما يعني أن مشروعها كان عقيما وغير قابل للإنجاز. في مقابل ذلك فإن أمجادا شخصية كثيرة تحققت باسم المشروع الإسلامي، فقد تمكن البعض من تولي منصب رئيس الحكومة (حمادي الجبالي وعلي العريض) والبعض الآخر وعددهم ليس بالهين تولى مناصب وزارية وحكومية وولاة ومعتمدين ونواب بل والوصول إلى رئاسة المجلس (الغنوشي ومورو والمرحومة محرزية العبيدي) وسفراء وقناصل ومدراء ورؤساء مديرين عامين وأصحاب مال وأعمال وملاك عقاريين وأصحاب شركات وفضاءات تجارية كبرى ومصانع وغابات وضيعات وهناشير وذوي أسهم في مؤسسات مالية وزبونية في الحصول على الشغل وثراء فاحش حتى حُقت عليهم صفة "فيضان الدنيا" بالمال التي أطلقها الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في كتابه العقل الأخلاقي العربي على أهل المدينة زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان بعد أن حصل انقلاب في القيم(ص62).

وبذلك استحال مشروع الحركة الإسلامية التونسية الذي كان وراء نصف قرن من التعبئة السياسية الطوباوية والتبشير الأيديولوجي بالمجتمع الإسلامي وبالدولة الإسلامية وبالعودة إلى دولة الخلافة السادسة كما نطق بها صادقا في تبنيها رئيس الحكومة والأمين العام الأسبق لحركة النهضة حمادي جبالي، واستعمال الإسلام الذي دخل الديار التونسية أثناء الخمسين سنة الأولى من ظهوره في خدمة الإسلاميين التونسيين الذين ظهروا في الربع الأخير من القرن العشرين وجعلوا من منابره ومساجده وجوامعه وكافة مقدّساته فضاءات للتمكين لأنفسهم، استحال هذا المشروع لهثا وراء الغنائم والمغانم والوصول إلى المناصب والاستمرار فيها أكبر قدر ممكن من الزمن. لقد انتبه إلى هذه الحقائق الصادمة رجل التنظيم في حركة النهضة الإسلامية أو مهندسه كما اعتادوا تلقيبه عبد الحميد الجلاصي، فكتب في رسالة استقالته من حزبه المنشورة في كتابه من الجماعة إلى الحزب السياسي ص 262-263 متسائلا: حركة النهضة من أجل ماذا؟ وممارسة السياسة من أجل ماذا؟ مجيبا بسؤال آخر هو التالي: ماذا يعني أن يكون محور سياسة حركة النهضة في الحكم هو موقع رئيسها؟ ومحور سياستها الداخلية هو رئيسها؟ ومؤكدا على أن وسيلة ذلك الخيار هي "احتكار المال واستعماله أداة للتحكم والترويض والعقاب"، وهو ما يدعم ما ذهبنا إليه من أن المشروع الإسلامي للإسلام السياسي التونسي هو مجرد شعار للتعبئة والوصول إلى مراكز القرار المتقدمة في الدولة على غرار منصب رئيس مجلس نواب الشعب، وذلك بعد "أن تم استنزاف الرصيد الأخلاقي والقيمي والأركان التأسيسية مثل الصدق والإخلاص والتجدد والإيفاء بالتعاقدات الديمقراطية والانحياز الاجتماعي والتحرر الحضاري والنبض التغييري لحركة النهضة"(ص263) وبعد أن بات "كل شيء عند متنفذي النهضة قابل للمقايضة"(نفس الصفحة) حسب شهادة شاهد من أهلها هو عبد الحميد الجلاصي.

وكما أنهيت حزبك الإسلامي خاوي الوفاض من القيم والمبادئ ومجرد وعاء لإعادة إنتاج المركب القديم الأنا الزعيم- العائلة-الحزب-الدولة الذي لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه، خدمة للقائد-الأمير النرجسي الذي يرأس حزبا لمدة خمسين سنة، الأمر الذي وصفه القيادي النهضاوي-الإسلامي عبد الحميد الجلاصي بالفضيحة "فلا يوجد في العالم من كوريا الشمالية إلى سويسرا من يترأس دولة أو حزبا أو منظمة لمدة خمسين سنة كاملة" (من الجماعة إلى الحزب السياسي ص263)، فقد زرعت الجواسيس والأنصار والمخربين والمخترقين والغوّاصين في أغلب الأحزاب السياسية الناشئة قبل الثورة وبعدها. فجعلت من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية قبل أن يرثه حزب الحراك فرعا لحركة لنهضة، تكونت هياكله القيادية وبعض نوابه في التأسيسي ووزراءه في حكومتي الترويكا من نشطاء إسلاميين كانوا يعملون في الاتجاه الإسلامي والنهضة وولائهم الأول والأخير لها، وأفقدت رئيسه المنصف المرزوقي مصداقيته أمام الرأي العام في حادثة تسليم البغدادي المحمودي المشينة (شهادة عدنان منصر في برنامج للتاريخ إدارة برهان بسيس بتاريخ 25 جانفي 2021 وكتابه سنوات الرمل الذي يروي تفاصيل حادثة التسليم ص 135)، ومن حزب التكتل من أجل الديمقراطية والحريات مجرّد ديكور طيلة حكم الترويكا الأولى والثانية. ثم بعد ذلك اخترقت حزب نداء تونس الفائز في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 عن طريق أحد رجال الأعمال الذين احتموا بالنهضة بعد سقوط نظام بن علي وعائلة الطرابلسية التي ورثت حمايتهم من التجمع الدستوري الديمقراطي وتخلّت عنه ليقبع في غياهب السجون، وعن طريق أحد نجلي الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وفق قاعدة "احتكار المال واستعماله أداة للتحكم والترويض" المشار إليها سلفا، حتى انهار على سكنته وتحوّل إلى شظايا متناثرة في شكل أحزاب ولوبيات ومراكز قوى وفساد، وهي نفس السياسة التي انتهجتها النهضة مع الإتحاد الوطني الحرّ وحزب تحيا تونس فشتتتهم الاختراقات ولعبة المصالح شرّ تشتيت، لتجعل من تلك الشظايا الحزبية وسيلة لتشكيل الحكومات منذ حكومة الحبيب الصيد إلى حكومات الشاهد المتتالية والتحكم فيها. ولقد عاودت الأمر نفسه مع حزب قلب تونس الفائز الثاني في انتخابات 2019 لتجعل منه مصعدا للوصول إلى رئاسة البرلمان، وأنت تعرف جيدا أن مصيره لن يختلف عن سابقيه فسيتحول قريبا إلى جماجم وأشلاء متناثرة على غرار الأحزاب المخترقة سابقا. ولقد نجا كل من التيار الديمقراطي وحركة الشعب بأعجوبة من غواصيكم زمن مشاركتكم الحكم في حكومة إلياس الفخفاخ الذي كان هو الضحية هذه المرّة ودفع الضريبة غالية. فهل تُستثاق بعد كل ذلك في ادعاءاتك مناصرة الديمقراطية والحياة الحزبية والتداول السلمي على السلطة الواردة في كتابك الحريات العامة في الدولة الإسلامية بعد كل هذا التخريب للأحزاب السياسية.

ولا يمكن فهم حمايتك لجماعة الكرامة والتستر على ما أبدوه من تطرف وغلو يصل إلى حدّ الترويج للإرهاب وإفساد للحياة البرلمانية، وإعلان العداء للجميع من أحزاب سياسية ومنظمات وطنية ومؤسسات قيادية في الدولة وشيطنتها والتطاول عليها في داخل المجلس وخارجه، وشعوذة وطفولية سياسية، وصلت حدّ الإدعاء باكتشاف دواء الكوفيد 19 على الملإ ما أثار سخرية الإعلام والنخب السياسية في أصقاع الدنيا، والتقاط الصور مع جواز سفر في حركة صبيانية لم يعرف لها تاريخ الدولة التونسية مثيلا، لا يمكن فهمه وتفسيره إلا بما يسكن أعماقك من نوستالجيا للجماعة الإسلامية الأولى ومختلف تنظيمات التشدد والغلو والتطرف المنبثقة عنها التي استطاعت أن تحول ديار المسلمين إلى ديار حرب كما رسم لها ذلك منظّرها الإخواني السيد قطب في كتابه معالم في الطريق وكما نظّر لها أبو بكر ناجي في كتاب إدارة التوحش، فتجعل من رقصة الدم التي يجسدها نظام "الإمارة الإسلامية" المزعومة هي القاعدة والأصل في حياة الشعوب العربية والشعوب المسلمة.

أما مرجع نشأة حزب عبير موسي "الحزب الدستوري الحر" وما تقوم به من عربدة وترذيل للعمل البرلماني ومحاولة تعطيل نشاط البرلمان المحسوب على الثورة التونسية، الذي يلتزم دستورها، فهو إسقاط النهضة قانون العزل السياسي وتآمرك على حزب نداء تونس الممثل للعائلة الدستورية بقيادة الباجي قائد السبسي، وهندستك المشهد الدستوري بمنحك إبان حكومة علي العريض تأشيرة حزب ثان سنة 2013 يمثل الدستوريين بقيادة صديق الإسلاميين حامد القروي الوزير الأول في عهد بن علي الذي يشير هو نفسه إلى تلك الصداقة التي تعود إلى سنة 1975 من القرن الماضي، وذلك في كتابه "Une vie en politique"، الذي أشار إلى تقديمه خدمات جليلة للإسلاميين أثناء حكمي بورقيبة وبن علي(ص ص 133-142). ولكن السحر انقلب على الساحر فقد تولت شؤون الحزب (الحركة الدستورية قبل تغيير اسمه إلى الحزب الدستوري الحر) الأمينة العامة المساعدة للتجمع الدستوري الديمقراطي عبير موسي، التي دخلت الحياة السياسية الديمقراطية برهانات إعادة إنتاج نظام بن علي، ومحو آثار الثورة التونسية بدعم قوى دولية تنتمي إلى محاور إقليمية مناهضة لمحور الإسلام السياسي الذي تقوده تركيا، والانتقام منك بوصفك أكبر الغانمين من تلك الثورة والمنتفعين ببركاتها المحلية والدولية.

وأظن أن ما تبديه موسي من عدوانية وإيذاء تجاهك يتحوّل إلى نوع من المتعة، وكأن لسان حالك يقول هاهي ممثلة نظام بن علي الطاغوتي وفق معجمك الإسلامو-إخواني تقف صاغرة صغيرة أمامي تبحث لنفسها عن موقع في معارضة لم تؤمن يوما بحقها في الوجود، بعد أن كانت هي وحزبها التجمع الدستوري الديمقراطي ونظامها وجنرالها بن علي الذي حكم البلاد بالحديد والنار ذوي بأس وشوكة وغلبة، وهاهو الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة الموضوعة صورته أمامها ينتبذ لنفسه مكانا صغيرا في الأسفل بعد أن صال وجال سنين طويلة، وهاهو راشد الغنوشي الذي رفض الترحم عليه عند وفاته يأخذ مكانه ويجلس في نفس المقعد الذي اعتلاه بورقيبة وجلس فيه بن علي وهما من عادا الإسلاميين لنصف قرن من الزمان، فأي انتقام وثأر للذات الشخصية والمعنوية الإسلامو- سياسية بعد هذا الانتقام. إنه الكسر المعنوي للدستوريين التجمعيين والبورقيبيين الذي استقرت آخر حلقاته بانتداب الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي محمد الغرياني، عدو الإسلاميين وغريمهم السياسي، عاملا بمكتب راشد الغنوشي على طريقة انتداب العقيد معمر القذافي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مستشارا لديه، وهو اختيار في ظاهره الاستشارة وفي باطنه الثأر والانتقام والإذلال.

لقد منحك التاريخ فرصة نادرة بأن جُلت العالم خلال الخمسين سنة المنقضية، واطلعت على جل تجاربه السياسية الديمقراطية والاستبدادية والثورية والإصلاحية غربا وشرقا، انطلاقا من دول العالم الحر في أمريكا وأروبا وصولا إلى باكستان وإيران والصين. وبقدر ما أثرت تلك الجولات والمشاركات والإستضافات من قبل الوزراء والحكومات والأحزاب والتنظيمات سيرتك الذاتية حتى صرت صاحب أكبر البوم صور من بين الطبقة السياسية التونسية يمكن أن يخلّد ذكراك، فإن أداءك السياسي وأنت الحاكم بأمره في مفاتيح الحكم ومناصبه وتشكيل حكوماته في تونس منذ عشر سنوات كان الأسوأ والأكثر كارثية اقتصادية ومالية مقارنة بالأنظمة السابقة، إذ لم يتجاوز حجم ديون تونس المقدرة بـ 108 مليار دينار ناتجها الوطني الخام الذي بلغ 102 مليار دينار حسب البلاغ الأخير للبنك المركزي إلا في العهد النهضوي السعيد. وهذا الوضع لا يشبهه إلا حال تونس نهاية القرن الكبيس الذي انتهت فيه البلاد مستعمرة فرنسية (راجع كتاب جون قانياج جذور الحماية الفرنسية بالبلاد التونسية 1861-1881).

ولقد كنت في لحظة ثورية بآمتياز لإعطاء الدرس لمن سبقوك من الحكام في النهوض بهذا البلد الموجوع والمأزوم الذي أعياه الفقر والبطالة والفساد، وإقامة نظام سياسي يوزع السلطة والثروة بالعدل والقسطاس بين التونسيين الذين أرهقتهم سرقات ثروات بلدهم وهيمنة القوى الأجنبية عليها، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، فأنت سليل فكر استبدل الوطن والأمة بالجماعة والتمكين لها. وما عاد العمر يسعفك بالتدارك والتعقيب لإصلاح حزبك أو إنقاذ بلدك فقد بلغت منه عتيا، ووهن العظم وانتهى الضعف منتهاه، وإن الزعماء الذين صنعوا أمجاد مجتمعاتهم ودولهم وبنو حضارات عملاقة وإصلاحات كبرى واحتلوا أمكنة محترمة بين الدول لم يكونوا في مثل سنك البتة، وإذا كنت تعتمد الرئيس الحبيب بورقيبة مثالا فإن حكومته بلغت أرذل عمرها في سنواتها الأخيرة وكذلك أمر الراحل الباجي قائد السبسي الذي حقق أقصى أمانيه المتجسدة في أن تنظّم له جنازة مهيبة عند وفاته تخرج من قصر قرطاج.

السيد رئيس مجلس نواب الشعب، أمامك فرصة بأن تلتقط اللحظة التاريخية وترتفع في أعين التونسيين وتعالج حال تونس مما تردت فيه من أمراض مزمنة وأزمات هيكلية تكاد تأتي على ما بقي من الدولة فتحولها هباء منثورا، فهي اليوم على وشك الحرب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر، فتبدأ بإنقاذ البرلمان الذي لم تكن قادرا على تسييره، تحوّل في ظلّ إدارتك له إلى مسخرة وحلبة صراع وتنابز بجميع الألقاب حتى سال فيه الدم وساده قانون الغاب والبلطجة وهو محراب القانون ومنبره الأول والأخير، بأن تعرض نفسك على لجنة طبية محايدة، فتجد لك مخرجا مشرّفا، بدلا من أن تخرج من نافذة صغيرة عن طريق الانقلاب الطبي الذي أُخرج به الحبيب بورقيبة، وكنت أيدته آنذاك، أو عن طريق انتفاضة شعبية عارمة كما أزيح بن علي، ولك أن تختار قبل أن تضيّع فرصة الاختيار، فالتاريخ هو من يفرض قوانينه على هوى الأفراد.   

النائب سالم لبيض 

أحدث أقدم