"الحيّ يروَّح" والمجتمعُ يتخلَّف....

 "الحيّ يروَّح"  والمجتمعُ يتخلَّف....

نور شيبة ، الحي يروح ، ادب السجون ، المخدرات ، تعاطي المخدرات ، السجن ، الباجي قائد السبسي

الفنان الشعبي التونسي نور شيبة أصدر كتابًا بعنوان "الحي يروح"، يستعرض فيه تجربته في السجن لمدة سنة بتهمة استهلاك المخدرات. أثار هذا الإصدار جدلاً في تونس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تباينت ردود الفعل بين داعمين للكتاب وساخرين منه. شيبة اعتُقل في ماي 2022، وقضى في السجن قبل أن يتم إطلاق سراحه في ماي 2023، وكان معتقلاً برفقة راقصة استعراضية واللاعب الدولي التونسي سهيل بالراضية، بتهمة استهلاك وترويج المخدرات.

حول هذا الحدث كتب الكاتب الصحفي التونسي سليم حكيمي:

يُحكى أنّ الأديب توفيق الحكيم التقى بالراقصة "نجوي فؤاد " في إحدى اشارات المرور، وكان يسوق سيارة تَقادَم عهدها، بينما كانت تمتطي واحدة من أَفرَهها. دارت بينهما مجاملة قصيرة قال خلالها:" قضيت عمري في الكتابة ولا أملك سوى هذه "العَربية". فردت ضاحكة: "عرفت دلوقتْي الفرق بين الأدب وقلّة الأدب،يا أستاذ".

لست بصدد الوَصم أو التبرئة،إذ كل فرد  يتحمّل مسوؤولية النمط الأخلاقي الذي أعطاه لحياته الخاصة. غير انّ المخدرات كانت من الممنوعات زجرا على الفقراء فقط في نظام "بن علي"، لا خوفا عليهم  بل توجّسا من تصنيفه نظام ترويج وعبور في زمن كانت فيه الموضة الامريكية تعاقب دول أمريكا اللاتينية عن ذلك. فكانت الجريمة صنو المعارضة السياسية والارهاب.دار الزمان دورته، وبدأ التطبيع مع المخّدرات، حتى وصلنا مرحلة "الباجي قائد السّبسي" الذي جعل عدم العقاب الجزائي عنها وَعدا انتخابيا للشباب في برنامجه  "التّنموي" لرئاسيات 2014. البزناس"، "غدوة نحرق"، "مْرا في حمّام الرجال " عصفور السطح " أو فنّ الشّكوة" على ركح قرطاج... كان ذا عصر ظُلمة قَرف انتهى بسقوط المنزلة للبلد عربيّا بعد ان اختلط  فيه المَرعيّ بالهَمل، زمن اختطف حُثالة اليسار التجمّعي الثقافة  لمواجهة التيار المحافظ، وجُعلت لهم الدّولة نَفَلا من الغنيمة، فطال التّجريف ما تبقى من قيم مجتمع حُرِم منابع القيمة، فأهلكوه وأَوْبَقوه حتىّ استحال دون بوصلة، وصار يعلق على الجُرم والإِثم بعبارة (normal).ما يقع هو من مظاهر التجريف التي انتقلت بالمجتمع  من حالة المعاقبة الأدبية على الشّبهات بالتجاهل والنفور، الى الاحتفاء بمتّهميها.وليست المشكلة في " شيبة"، بل في بيئة  الثقافة "الأشراف من الأطراف"، من طبّالي وفناني 7 نوفمبر، التي تنتج امثاله وتبيض الجرائم وتساهم في العقم الفنيّ الذي لم يجد سوى اغاني "الشِّكوة" أسلوبا فنيا وحيدا طُرد من باريس في اول عرض "النوبة" المنحطّ. فقد صرّح "صالح الفرزيط"  نفسه حرفيا مستذكرا:"كان المزود مستهجنا، و كانت العايْلة اليّ تجيب مْزواديّة في فَرْح تِتْنعَت بالصْبُع".

 سابقا، احتجت النخبة على ظهور "حبّوبة" في التلفزة، فعزل الرئيس بورقيبة مديرها معتبرا أن مراعاة الذوق العام من مسؤوليات الدوّلة. قال عمرو بن العاص:" إنّ سقوط ألف من عليّة القوم، لأخفّ ضرراً من إرتفاع واحد من السفلة". "حالة ضحالة عامة" على رأي الاستاذ "عبد الرزاق حاج مسعود". ففي بلد يستسهل فيه الجهَلة والسّفلة الحكم ، يستسهل فيه المزاوديّة الانتماء الى مصافّ الكتاب. ليس الخطر في الانحطاط بل في التطبيع معه. إذ صارت فيه الأسر تستَمرئ البذاءة وتحضر مجتمعة مسرحيّة تحوي ساقط الالفاظ وتقبل الدّود في الثَّمر.ما يؤسف ان التجريف يكتسح مساحة الثوابت، فطال مكتبة ادّعت وجود هيئة توافق على النّشر من عدمه، فإذ بها تحتفي بنصّ لا يرتقي الى درجة الصّفر من الكتابة بلغة "رولان بارط". وهو ما يدل على أن كل شيئ يخضع للبيع والشّراء، و ان السّوق هو الذي أملى قيمه الانتهازية،  عملا بمقولة مخرج مصري "الجمهور عاوز كِده".في حين ان التجمهر ليس معيارا للقيمة، فقد استفزّ الفُكاهي "شُكوُكو" الكاتب "نجيب محفوظ" بقوله: "إن أُقدمْ عرضا، يجتمعْ الناس حولي  أكثر منك". فردّ:" وبامكاني ان استقدم راقصة عارية ، فيجتمعَون عليها أكثر منك".   

في ألمانيا ،كان النجم "يورغن كليزمان" من فريقها الفائز بكاس العالم سنة 1990، و في سنة  1996 فازت بكاس أوربا وكان افضل لاعبيها، ذاع صيته ملك الدنيا وشغل الناس.ولكن المفاجاة ان سبر اراء قامت به مؤسسة محترمة حول شخصية العام، كان الفائز فيه الفيلسوف الالماني "يُورغن هابَرْمَاس" صاحب عشرات المؤلفات، الذي طرح خطابا حول تأهيل الدّور العام للدّين في السياق العلماني، بخصوص تطور الفصل بين الكنيسة والدولة من الحياد إلى العلمانية الحادّة،واليساري الذي نأى عن مدرسة فرانكفورت.فالشعوب التاريخية هي التي تعتبر العقول أخطر الثروات في تامين حياة المجتمعات أو تغييرها.... ففي عصر  أفسد النّاس وجعل للسُّفهاء مقالا، لن ينصلح حال  أسوا الازمان الاّ  بالقيام بأحسن الاعمال. فالناس في الاغلب الأعمّ يعرفون سعر كلّ شيئ، وقيمة اللاّشيء.

أحدث أقدم